سُميّة طه: كاتبة وروائية يمنية
ثمة خيبة صغيرة تنتابك حين تبدأ في قراءة "إرث النكبة"، سرعان ما تتلاشى عند الانتهاء من الفصلين الأولين والانتقال للفصل الثالث، تعاودك عند الإنتهاء من القراءة. رواية ممتعةٌ، أوصيت أربعة من أصدقائي بقراءتها قبل أن أنتهي منها، لغتها جميلة ومتدفقة ومشوقة بسلاسة دون تعقيد. وشعرت بالحزن الشديد لتلك النهاية المقتطفة السريعة، تمنيت لو أن القصة استمرت لوقتٍ أطول.
الرواية قلبًا وقالبًا
وصلت "إرث النكبة" للقائمة القصيرة في جائزة السرد اليمني (حزاوي)، وفازت بجائزة النشر، بتوصية من لجنة التحكيم. وبالرغم من أن الكاتب قد أوضح أن النص قد حُرِّر، لكن يمكن قراءة الكثير من بين السطور.
أنوه بداية إلى أن اختيار غلاف الرواية ملائمٌ لعنوانها والقصة التي تدور حولها، حيث تغلب الألوان الغامقة، ويقف في منتصف الغلاف شاب ينظر إلى بلدته المنكوبة، لا نرى وجهه ولا ندري ما الذي يتطلع إليه.
المؤلف: محمد عبده البردوني، من مواليد البردون في الحداء- ذمار، وهي قرية الشاعر الكبير عبدالله البردوني، ويكون الكاتب هو حفيد الشاعر. في هذا الصدد ليست الكتابة عن الشاعر تحسين لصورته التي يقدسها اليمنيون، بل هي أقرب للحياد، من دون تعصب، ومن قريب يعرف أكثر قليلًا عن أسرار قريبه مما يعرف باقي الناس.
تدور أحداث "إرث النكبة" حول الكاتب نفسه وعائلته وأهالي البردون وحرفتهم في قص أحجار البناء بالمناشير، وترتبط كذلك ارتباطًا وثيقًا بجد الكاتب- الشاعر، الذي وصفه بالجد الكريم، رغم وصف الآخرين له بغير ذلك. يلاحق "عبده البردوني"، والد الكاتب، إرثًا غير واضح، ويضيع عمله ورزقه الذي بين يديه، بانشغاله بالصراع مع شقيقتيه وزوجة الفقيد.
رحلة الكاتب
بدأ الكاتب بداية مرتبكة، مليئة بالتكرار، والشرح غير اللازم، فذكر ترتيب الإخوة أكثر من مرة، ومرتبة كل واحدٍ منهم، وأهميته، وكان بالإمكان اختصار الفصلين في فصل واحد، وترك المساحة للكاتب ليعرف عن الإخوة من خلال الأحداث. لكن حالما يبدأ القارئ بالتعمق في فصول الرواية يشعر بنقلة نوعية في تدفق الأحداث؛ فالكاتب يأخذ بطله "محمد"، أو يوثق عن نفسه، في رحلة مثيرةٍ عبر السنوات، ستأخذ قارئه معه لرحلة في ذاكرة القارئ نفسه (خاصة إن كان من مواليد الثمانينات أو قبلها)، عبر الأحداث التي مرت بها البلاد، سريعًا أو بطيئًا، وأثرت بشكل أو بآخر فيما آلت إليه اليمن في وقتنا الحالي.
إن دوران الجزء الأول من الرواية حول معضلة انقطاع الكهرباء التي عانى منها اليمنيون لسنوات طويلة، تذكرك بالوقت الذي ضاعت فيه مصالح الكثير من المواطنين، وبدأت فيه البلاد بالانحدار بشكل أو بآخر. ويأتي الجزء الثاني ليشير إلى ما أحدثه الصراع على السلطة من أضرار جسيمة، حيث فقد الإنسان اليمني هويته، وأصبح يحاول تجنب "الحبس"، وتجنب أن يسُاء فهمه وهو في رحلة ملاحقة لقمة العيش، ومحاولة مقاومة الأوضاع الاقتصادية الصعبة.
الشخصيات
في رحلة "محمد عبده" كثير من الوعورة، تعكس المسؤولية التي تلقى على الطفل الأول في مجتمع يلقي الكثير على عاتق أبنائه الذكور، ولأنه "يعيش في مرحلة وعي مستمرة"، تحيطه قوقعة غربة في كل مكان يذهب إليه، بدءًا من إخوته، إلى عمله مرورًا بمدرسته. وهذا يقودنا لملاحظة بنية المجتمع اليمني من خلال المشكلات التي يمر بها الشخوص في الرواية، حيث يقدس اليمنيون الانتماء لشيء ما: القبيلة، القرية، المدينة، الدم، يتحرك الناس في تكتلات أغلبها مناطقية لا منطقية.
تحكي الرواية قصة حقيقية كما يشير الكاتب في عتبتها الافتتاحية اقتباسًا عن بورخيس:
"هناك أشخاصٌ يزعمون أنهم يكتبون قصصًا حقيقية… فليكن. على أية حالٍ هذه قصةٌ حقيقية."
ولأن الرواية سيرية، فإنه يعكس ثقافة المجتمع اليمني، وسلمه الهرمي، وتوازن القوى في المجتمعات المختلفة، من قبيلة وأسرة، وطبقات اجتماعية، موروثة أو صنعها المال والسلاح.
يؤخذ على الكاتب ضعف حضور النساء في نصه، فتبدو شخصياته النسائية دون صوت، ليس بوسع القارئ سماع صوت أفكارهن مثل بقية الشخصيات الأخرى. في المقابل تنضح الرواية بالذكورية المسيطرة على المشاهد في مسرح الحياة، وهي بذلك تصور عقلية الرجل اليمني أو مجتمعه، لكنه مع ذلك أمر مستفز لحدٍ ما لقارئاته من النساء.
يأتي ذكر الزوجة التي تم اختيارها لتلبي احتياجات زوجها من العاطفة، الفراش والمأكل والمشرب، وفصلت على مقاسه الخاص باختيار الأم. وتظهر في النص لحظات الرومانسية التي يعيشها الزوجان في غياب الأطفال، والتي تختفي حالما يأتون، وتنغمس المرأة في رعايتهم.
تتربع الأم كملكة على عرش حياة أبنائها، تعوض فيهم السلطة التي حرمتها كامرأة وزوجة، وبعد أن كانت خادمة لزوجها، أو لأهله، فهي تحضر لأبنائها خادمات من عائلات أخرى. ويكون رضاها فوق الجميع؛ فلا يجوز إغضابها، أو خلق المشاكل بينها وبين أبنائها، وتظهر كلمتها ووصاياها كأنها قوانين لا تجب مخالفتها مثل: التزامهم جميعًا ببدء العمل بعد تناولهم الطعام عملًا بنصيحتها لهم.
دور الأم هذا يكتمل بكونها الملجأ الأول لأبنائها، فهي الوطن في كل الغربة والصعوبات التي يمر بها الرجل اليمني بدءًا من نضجه المبكر في طفولته المتأخرة. وأظهر النص أن الأم هي الركن الثابت في كل متغيرات الحياة، لأنها تبقى جانبًا في صفّ أبنائها مهما اعتركت الحياة، ومهما تعارك الناس.
أخيرًا:
الكتابة السيرية في العادة ليست الخيار الأول الذي يتجه له الكاتب في بداية نشر أعماله، لكن صلة الكاتب بالشاعر، وحاجة البلد للمزيد من التدوين عن هذه الفترات الصعبة التي يمر بها الناس، يجعلان هذا النوع من الكتابة خيارًا مستحبًا.